الثلاثاء، 12 أغسطس 2008

وحشنا يا أنكل



بسم الله الرحمن الرحيم

عمي الغالي أنكل ناجي:

تحياتي لكم من قطر و بعد...
و الله وحشتني و كلي أمل أن تشعر بحجم اشتياقي لكم .. كما آمل ألا تحمل علي لندرة رسائلي .. و علي يقين أنه لا حاجة لي لسرد أعذار و ذكر مشاغل خاصة عقب عملية وضعي – قيصرية - كالعادة .. و على أي حال، فأنا أعتبر تقصيري في الكتابة لكم هو عقوبة لي شخصيا .. فمراسلتكم هي احتياج و بحق.. و ها أنا أكتب لكم طوال الليل و حتى بزوغ الفجر.


" نون"
"ن ناهد .. ن ناجي .. ن نجوى .. ن ناريمان .. ن نللي"
تعلم يا – عمي – قليلة هي العائلات التي تنتقى حرف معين، تؤثره عن سواه بمنحه شرف الحصول على أول حرف من حروف أسماء أبنائهم .. و لا أشك أن اختفاء "حرفي نون" من أبجدية العائلة تعني اختفاء معاني جميلة في حياة الأسرة.
أعزيكم في تانت ناريمان- البقاء لله- اللهم أدخلها الفردوس الأعلى دون سابقة عذاب أو حساب.
رغم أن الحكمة تدعونا "ألا نحزن" إلا أني و الله لا أجرؤ على التفوه ب" لا تحزن".
كيف تلقيتم خبر وفاتها يا أنكل ؟.. أكيد هناك من اتصل ليخبرك.
عارف حضرتك..
لم أفكر يوماً أن تموت عمتي و أنا في قطر .. بعيدة عن أهلي – و ذي قلتي- ثم أني لا أشك أنه أمر بالغ المرارة أن تتلقى خبر وفاة أكبر أشقائك و أصغر شقيقاتك عبر اتصال هاتفي و أنت في غربتك في "مينوسوتا" بأمريكا!

يا سبحان الله.. لم نتمكن من الوقوف معها في آخر أيامها أو مساندتها.. و لم و لم و لم و لم .. حتى إننا غبنا عن الصلاة علي تانت ناريمان!
و أكثر ما يغيظ يا - عمي- أن تجد من يتوهم أنه يسلي عنك بمقولة " لا تحزن" أو صلي عليها صلاة الغائب!
ليتني أغيب ذوقيا للحظات لأتمنى لأصحاب هذه المقولة أن ُيصلي عليهم ذويهم أو ُيصلوا هم على أصفيائهم صلاة الغائب!

" المصاري"

* لفترة – يا عمي- ظللت أتصور خناقة افتراضية مع طبيب مستشفى دار الفؤاد حيث توفت و الذي أخبرها أنه باقي لديها أيام قليلة و تنتهي!
(هل يصل الصلف لهذا الحد؟!) و على من نحزن يا عماه ؟!
على من انتقلت إلى رحمة الله .. أم نحزن على الطبيب الشهير الذي نزعت الإنسانية من قلبه وقرر أن يدفع مرضاه ضريبة شهرته!!

مؤكد سمعتم يا أنكل عن ضريبة الشهرة.. لكن يبدو أن وزير المالية المصري يوسف بطرس غالي، لم يسمع عنها بعد .. و إلا كان فعلها .. وحول المجازي لواقع ضريبي جديد.. ليت يدفعه هذا الطبيب الشهير..
فليوسف غالي سوابق شتى، فمصر في عهده أصبح لها كثير من ال
Exclusives Taxes
فهي ضرائب – حصرياً - من إبداعاته خاصة العقارية الأخيرة!
و أرجو أن توافقني - يا أنكل - أنه ليس اعتباطاً أو صدفة ًأن يحمل الدكتور" يوسف " و الذي يقف على خزائن مصر في هذه السنين العجاف اسم سيدنا " يوسف" عليه السلام .. ولكن شتان بين ثمار اليوسفي!!
أحدهما أنقذت الشرق الأوسط من الجوع و الفقر و العوز و الحزن، حتى أن أهل الشام و حتى يومنا هذا لا زالوا يطلقون على النقود اسم " المصاري" لأن الخير كان ينبع من مصر ..
و الثمرة الأخرى قادتها إلى طوابير الخبز و أزمات.. أزمات .. أزمات مؤلمة و حزينة زمات أزماتأزم لا حصر لها! حتى إن أحد معارفي الفرنسيات أخبرتني مشكورة أن مشاهد "جياع المصريين" المادين أيديهم طلبا لرغيف خبز .. مصورة بكاميرات " السي أن أن " ذكرتها ب" ليميزيرابل" و الغوغاء و الرعاع في رائعة هوجو "البؤساء" حينما صور مأساة فرنسا في أحط عهودها !! فكيف لا نحزن؟!
ربما يكون الحزن غير مجدياً .. لكن يقينا لا مجال للفرح؟
عموماَ، هنا أتحدث عن ضريبة الغربة و التي ندفعها بالفعل.. و يدفعها سوانا من المغتربين .. ندفعها هنا في قطر .. و تدفعوها أنتم هناك في أمريكا... بل و يدفعها المصريون في عقر مصرهم!!!
دعاء السفر
* و لكن هل لا زلت تشعر بالغربة و أنت خارج مصر؟
*ألم تتأقلم بعد مع ثلج شتائهم و أمطار صيفهم وأحوال طقسهم و شتى طقوسهم؟
* و في زياراتك لمصر، ألا تشعر بالغربة؟
*و هل يتسع صدرك لنصائح الأهل والأصدقاء بأن الضرورة تحتم بال لا عودة للوطن و " خليك عندك أحسن"!
* وهل انتابتك حالة اللا فرح و اللا حزن– اليوباسيك- أي الغير معرفة السبب كما ينعتها الأطباء ؟ تراهم يعرفون السبب و مدكنين؟!
*و– من الأساس- هل تبقى من صدقاتك القديمة في مصر شيء أم صادرتها الغربة؟
* و هل ضبطت نفسك مرتاحاً خارج وطنك و أنت تمشي في شوارع الغربة النظيفة أو و أنت تحصل على رعاية طبية لائقة أو أو أو...؟!
* و هل توجست مرة خشية أن تعود لوطن لا يريدك؟
* و هل ضبطت نفسك مرة تقول لتانت نهلة و أنت في مصر:" امتى بقه نرجع .. خلاص الواحد تعب و عايزين نستريح في البيت .. الأجازة طولت و رزلت ؟!"
* وفي أي اتجاه للطائرة، تستكمل دعاء السفر" تائبون .. عابدون إلى ربنا راجعون" و أنت عائد إلى "مينوسوتا" مقر إقامتك ومهجرك و موطنك الجديد أم وأنت قادم لمصر بلد المنشأ و موطنك القديم؟!
* و هل إتصلت من مهجرك ذات مرة بقريب من الدرجة الأولى فرد عليك: أيوة يا فندم مين حضرتك؟!
* و هل تتذكر مثلي أغنية " الحدود" و أنت محلق في الهواء الإقليمي الملوث بأتربة الذكريات؟

و أحنا فايتين علي الحدود
مستمرين في الصعود

اختفى النيل الجميل من تحتنا
والمدن والريف وأول عمرنا

و ابتدى شيء ينجرح جوه الوجووووود
و ابتدينا أسئلة مالهاش ردووووووود

ميلنا على الشباك نخبى دمعة فرت مننا
ميلنا على الشباك نخبى دمعة فرت مننا

شوقى زاد للعشرة والناس العزاز
و ابتديت أكتب وأنا فوق السحاب
أبتديت يا حبيبي في أول جواب

من مغتربة إلى مغترب

* وها أنا اكتب لك الجواب.. أكتب من مغتربة إلى مغترب و أسألك :
* وماذا عن أحمد بن عمي في الغربة؟
* وهل تأقلمت هبة حينما بدأت سلسلة هجراتها "الميمية "؟
منصورة .. مينوسوتا.. مينوسوتا .. مكة عقب زواجها ؟
و ماذا عن إيمان؟ هل تجد صعوبات في تربية ابنتها الجميلة جومانة بأمريكا؟
* لقد تذكرتكم جميعاً منذ يومين حين التقينا ياسر و أنا، بمهندس سوداني عند قيامنا بدفع فاتورة " كيوتل"، تذكرتكم حين أخبرنا الشاب السوداني أنه أوشك إنهاء أخر صفحة في كتاب غربته.. و شرع في عد الليالي، كونه على بعد أيام من مقابلة والديه الذي عاش ما يزيد على عقد من الزمان دون رؤيتهما..
فقد سرقته سنوات التعليم في الهند.. و نهبته أعوام الماجستير في ماليزيا ..
و قضت عليه أحوال العمل في قطر..
و لكنه ها هو عائد أخيراً " للوطن" لأنه وجد فرصة عمل في السودان بمزايا أفضل من المتعاقد عليها في قطر.. و أخبرنا أن أوضاع السودان قد تحسنت.. و أن البترول ظهر و" زهزهت".. و أن عدد كبير من سودانيي المهجر قد عادوا للوطن أو في طريق العود.
" البدون"
أنكل:
* كدت أقسم ألا يحتمل إنسان طبيعي، العيش عقداً دون رؤية الأقربين، ثم فوجئت أني لم أرك منذ سبع سنوات ولم أقابل أحمد بن عمي و لا إيمان و هبة بنات عمي و لا حبيبتي تانت نهلة منذ ذات الحين! كما أن الأوضاع في مصر لا تبشر بأننا سنجتمع عما قريب .. بعكس الحال في السودان .. أكرر .. السودان.. الجار الشقيق اللصيق..
حقاً فإن الأيام دول .. و ماله.. جايز، يمكن،احتمال!

* ألا توافقني أن خبرية كهذه تبعث على التفاؤل.. فأستطيع بلسان صدق أن أدعي أنه لا داع للحزن و التشاؤم!! و أنه من فتحها على السودان قادر على فتحها على مصر!
لكن أخشى أن يكون الموضوع برمته" كذبة بيضاء" و الرجل سرح بنا .. خاصة عقب سماعي لأخبار محاكمة البشير! و على العموم كله غير مؤكد.. يجوز .. يمكن .. احتمال.
مش دى بطاقتى وده رقمى القومى ودى الحقيقة وده الخيال
ومش دي الخريطة ودي المدينة وكده يمين وكده شمال
مش ده اتوبيس ودى عجلة ودول حمير.. ودول جمال
مش ده عمى ودى أختى و دول صحابى.. وده جمال
مش ده شارعنا وده بيتنا ودى مراتى .. ودولا العيال
مش ده الوطن وده المواطن وده التاريخ اللى إتقال
أمال ليه كل ما اروح فى حته و أسأل سوأل
يقولولي: جايز .. يمكن .. احتمال.
(على سلامة)

* مرة أخرى أفاجأ بكوني لم أحضر زواج إيمان ابنة عمي و لم تتح لي رؤية حفيدتك الجميلة "جومانة".. كما أنك لم تتعرف على أولادي سوى في الصور.. و أنا أيضاً لم أشارككم .. لا في حفل تخرج هبة و لا في زفافها..
و أعتقد أني حتى لو التقيت –بأحمد- فلن أتعرف عليه.. أكيد كبر .. أما المخزي حقاً .. فهو غيابي عنكم أثناء قيامك بثلاث عمليات قلب .. و في النهاية تجد من يختزل الأمر في " ضريبة غربة"! و تجد من يتطوع بالنصيحة الغالية : لا تحزن!

*عمتي تنتهي و أعجز عن الذهاب للتعزية و لو كالضيوف الأغراب .. و يقال لك " ضريبة غربة "! لا تحزن.. و بعدين مجيتك ذي قلتها!

على فكرة، أنا مشفقة على حضرتك من أي زيارة " للمنصورة" بعد وفاتها.. لأننا ندفن أجزاء منا .. إذا ماتت بعض من دمائنا.
إلا أني أشفق عليها أكثر.. فقد انتهت تانت ناريمان الشابة الجميلة الرياضية و اختفت من الأرض.. برصيد 54 سنة .. لا نعلم هل أعوام السعادة فيها مساوية لسنوات الحزن و الألم مع مرض احتكر إبادة المصريين! (جملة فيها مبالغة كالعادة).

رحلت بدون!!
* بدون أبناء ينعون و يبكون و يفتقدون و يحزنون !
ألا توافقني أن الحزن هنا مندوب؟ الم يقل الحق" (وما بكت عليهم السماوات و الأرض).. إذن يحق لنا الحزن و يحق لأصفيائنا أن ُيحزن عليهم.. و كيف لا نحزن؟!

* بدون تحقيق أمنياتها في العمل مستشارة بالمغرب! و حزنت على هذه حتى رمدت عيناها .. و أذكر أني حين زرتها لأواسيها ..قالت:
: اوعي تحزني يا داليا أبداً.. الحزن كان هيضيع عيني.. ثم سكنت قليلا وأردفت: طب ما تعرفيش طريقة تخللي الواحد يبطل يحزن!"
* بدون .. "كالأغراب البدون" في الوطن .. بدون استقرار بدون راحة و بدون أمان.. شأنها شأن باقي "البدون" المصريين "الحزانا " مقيمين أو مغتربين أو ناويين ركوب سفن الهجرة المحرمة - لقد وصموها بالغير مشروعة يا عمي - كما و أصدروا فتوى بأن المهاجرين الغرقى ما هم إلا "شباب طماع".. أي لا داع للحزن عليهم! -أخرتها طلعنا شلة طماعين و ما احناش دريانين!-
* بدون مالها الذي لم تتركه لأبناء لها.. و مع ذلك تحاسب عليه.. بل و وجدت من حسدها على عدم الإنجاب ( يا بختك يا شيخة .. عايشة عصرك الذهبي ..أسكتي د العيال ما بيجيش منهم غير الهم و الغم )!
* بدون أن تجد من يتمسك بها تماماً كال "بدون" المقيمين في الكويت.. رغم أنها كانت متمسكة و بشدة بالحياة و مصارعة عنيفة للمرض و بالفعل كافحت كي ..
كي لا تحزن!
* بدون أي شيء .. و المحزن حقاً أننا جميعا سنرحل بذات البدون!

عمي:
* هل لاحظت أننا حينما نفقد صفي لنا .. نشفق على أنفسنا .. و نعدد ما فقدناه نحن.. نهول مصيبتنا نحن .. رغم أن الفجيعة الحقيقية هي للفقيد.. هي لمن فقد حياته.. هي لمن رحل عن هذه الدنيا!
لكننا - كأحياء – نؤثر ذكر ما فقدناه .. و كيف كان -الفقيد- يعني لنا الكثير!..
و إذ فجأةً، يتحول المرحوم للسند و المستند و الظهر و الرأس و المخ و العضلات والحاضر و المستقبل و تاريخ الماضي و البوم الذكريات بضحكاتها و آهاتها!
عمي الغالي:
* لقد راجعت رسالتي الأسبق لوالدي - رحمه الله - ووجدتني ارثيني لا أرثيه.. أشقق على لا عليه .. أتحسر على حالي لا على حاله.. رغم كونه هو من فقد حياته .. رغم أنه هو الذي انتهى .. رغم أنه هو من بدأ الحسيب حسابه .. رغم أنه هو من يحتاج إلى الدعاء و مع ذلك كنت أفتقد من كان يدعوا لي..
و يبدو أننا نستريح لمقوله " لقد استراح من الدنيا و أحزانها " دون دليل واحد هذه الراحة !
*اليوم تحدثت مع ياسر " عنه " و وجدتني أذكر حديث نبوي معناه أنه حينما تموت " الأم " تقول الملائكة للإنسان" اعمل فقد ماتت التي كنت تكرم من أجلها"
فقلت لياسر: إذا كان السماء ُتحسن للإنسان إكراما لأمه .. فإن الأرض ُتحسن له إكراماً لأبوه ..
و بموت الأب و الأم يعتقد الإنسان أنه لن يفقد أكثر مما فقد.. فيموت عنه الأخ .. فيشعر أن بعضه قد مات.. ثم يتصور من جديد أنه لا يملك المزيد ليفقده! ثم.. ثم يتمنى ألا يكون هناك ثمة ثم!"
أكرر عزائي يا أنكل .. لكن هل يجدي عزاء في الغربة؟ أشك في هذا الذي أرجوه..

ليست هناك تعليقات: